الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» لأنني حين أحسب عملي مقابل ما أعطاني ربي من نِعَم قبل أنْ أُخلق، وإلى أن أبلغ وأُكلَّف، أجد أنني لو قضيتُ حياتي كلها في طاعة ربي ما وفَّيتُ بحقه عليَّ.ثم من ناحية أخرى تجد أن العبادة والطاعة نفعُها يعود إليك أنت، ولا ينتفع الله تعالى منها بشيء، فإذا كانت الطاعة والعبادة يعود نفعها إليك، إذن: فالثواب عليها يكون فضلًا من الله.ومثَّلْنا لذلك- ولله المثل الأعلى- بولدك تُشجِّعه على المذاكرة، وتُحضر له أدواته، وتنفق عليه طوال العام، فإذا ما نجح آخر العام أعطيْتَه هدية أو مكافأة، فهذه الهدية من باب الفضل.لذلك، إنْ أردتَ أنْ تصلح بين متخاصمين، أو تُؤلِّف بينهما فقُلْ لهم: أتحبون أنْ أحكم بينكم بالعدل أم بالفضل؟ سيقولون لك: ليس هناك أفضل من العدل، وعندها لك أن تقول: بل الفضل أحسن من العدل؛ لأن العدل أنْ تأخذ حقك من خصمك، والفضل أنْ تترك حقَّك لخصمك لتأخذه من يد ربك عز وجل.وهذا ما رأيناه مُطبِّقًا في قصة الإفك بين سيدنا أبي بكر حين عفا عن مسطح بعد أن نزل قوله تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النور: 22].فمن أراد أنْ يغفر الله له ذنوبه فليغفر لأخيه زلَّته وسَوْأتَهُ.ثم يقول الحق سبحانه: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين}.في أول السورة خاطب الحق سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: {يا أيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] وهنا خاطبه ربه بقوله: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلًا} [الأحزاب: 48] فالأولى كانت في بداية الدعوة، حين أخذ الكفار يكيدون لرسول الله، فما بالك وقد قويتْ الدعوة، واشتدَّ عودها، لابد أنْ يتضاعف كيْد الكافرين لرسول الله.لذلك يكرر له مسألة {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48] ولا يعني ذلك أنني سأُْسْلِمك، إنما أنا وكيلك {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلًا} [الأحزاب: 48].فإنْ قلت: كيف والوكيل أقل من الأصيل؟ نقول: لا، فالأصيل ما وكَّل غيره، إلا لأنه عجز أنْ يفعل، فاختار الأقوى ليفعل له. اهـ.
وذكروا في مثل هذا التركيب أن على وعن اسمان، ولا يجوز أن يكونا حرفين، لامتناع فكر فيك، وأعني بك، بل هذا مما يكون فيه النفس، أي فكر في نفسك، وأعني بنفسك، وقد تكلمنا على هذا في قوله: {وهزي إليك} {واضمم إليك جناحك} وقال الحوفي: {وتخفي في نفسك} مستأنف، {وتخشى} معطوف على وتخفي.وقال الزمخشري: واو الحال، أي تقول لزيد: {أمسك عليك زوجك} مخفيًا في نفسك إرادة أن لا يمسكها، وتخفي خاشيًا قاله الناس، أو واو العطف، كأنه قيل: وأن تجمع بين قولك: {أمسك} وإخفاء قالة، وخشية الناس. انتهى.ولا يكون {وتخفي} حالًا على إضمار مبتدأ، أي وأنت تخفي، لأنه مضارع مثبت، فلا يدخل عليه الواو إلا على ذلك الإضمار، وهو مع ذلك قليل نادر، لا يبنى على مثله القواعد؛ ومنه قولهم: قمت وأصك عينه، أي وأنا أصك عينه.{والله أحق أن تخشاه} تقدّم إعراب نظيره في التوبة.{فلما قضى زيد منها وطرًا} أي حاجة، قيل: وهو الجماع، قاله ابن عباس.وروي أبو عصمة: نوح ابن أبي مريم، بإسناد رفعه إلى زينب أنها قالت: ما كنت أمتنع منه، غير أن الله منعني منه.وقيل: إنه مذ تزوجها لم يتمكن من الاستمتاع بها.وروي أنه كان يتورم ذلك منه حين يريد أن يقربها.وقال قتادة: الوطر هنا: الطلاق.وقرأ الجمهور: {زوجناكها} بنون العظمة؛ وجعفر بن محمد، وابن الحنفية، وأخواه الحسن والحسين، وأبوهم علي: زوجتكها، بتاء الضمير للمتكلم.ونفى تعالى الحرج عن المؤمنين في إجراء أزواج المتبنين مجرى أزواج البنين في تحريمهن عليهن بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهن.{وكان أمر الله} أي مقتضى أمر الله، أو مضمن أمره.قال ابن عطية: وإلا فالأمر قديم لا يوصف بأنه مفعول، ويحتمل على بعد أن يكون الأمر واحد الأمور التي شأنها أن تفعل.وقال الزمخشري: {وكان أمر الله} الذي يريد أن يكونه، {مفعولًا} مكونًا لا محالة، وهو مثل لما أراد كونه من تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب.ويجوز أن يراد بأمر الله المكون، لأنه مفعول يكن.ولما نفى الحرج عن المؤمنين فيما ذكر، واندرج الرسول فيهم، إذ هو سيد المؤمنين، نفى عنه الحرج بخصوصه، وذلك على سبيل التكريم والتشريف، ونفى الحرج عنه مرتين، إحداهما بالاندراج في العموم، والأخرى بالخصوص.{فيما فرض الله له} قال الحسن: فيما خص به من صحة النكاح بلا صداق.وقال قتادة: فيما أحل له.وقال الضحاك: في الزيادة على الأربع، وكانت اليهود عابوه بكثرة النكاح وكثرة الأزواج، فرد الله عليهم بقوله: {سنة الله} أي في الأنبياء بكثرة النساء، حتى كان لسليمان، عليه السلام، ثلاثمائة حرة وسبعماية سرية، وكان لداود مائة امرأة وثلاثمائة سرية.وقيل: الإشارة إلى أن الرسول جمع بينه وبين زينب، كما جمع بين داود وبين التي تزوجها بعد قتل زوجها.وانتصب {سنة الله} على أنه اسم موضوع موضع المصدر، قاله الزمخشري؛ أو على المصدر؛ أو على إضمار فعل تقديره: ألزم أو نحوه، أو على الإغراء، كأنه قال: فعليه سنة الله.قال ابن عطية: وقوله: أو على الإغراء، ليس بجيد، لأن عامل الاسم في الإغراء لا يجوز حذفه، وأيضًا فتقديره: فعليه سنة الله بضمير الغيبة، ولا يجوز ذلك في الإغراء، إذ لا يغرى غائب.وما جاء من قولهم: عليه رجلًا، ليسنى له تأويل، وهو مع ذلك نادر.و{الذين خلوا} الأنبياء، بدليل وصفهم بعد قوله: {الذين يبلغون رسالات الله}.{وكان أمر الله} أي مأموراته، والكائنات من أمره، فهي مقدورة.وقوله: {قدرًا} أي ذا قدر، أو عن قدر، أو قضاء مقضيًا وحكمًا مثبوتًا.و{الذين} صفة الذين خلوا، أو مرفوع، أو منصوب على إضمارهم، أو على أمدح.وقرأ عبد الله: الذين بلغوا، جعله فعلًا ماضيًا.وقرأ أبي: رسالة الله على التوحيد؛ والجمهور: يبلغون رسالات جمعًا.{وكفى بالله حسيبًا} أي محاسبًا على جميع الأعمال والعقائد، أو محسبًا: أي كافيًا.ثم نفى تعالى كون رسوله {أبا أحد من رجالكم} بينه وبين من تبناه من حرمة الصهارة والنكاح ما يثبت بين الأب وولده.هذا مقصود هذه الجملة، وليس المقصود أنه لم يكن له ولد، فيحتاج إلى الاحتجاج في أمر بنيه بأنهم كانوا ماتوا، ولا في أمر الحسن والحسين بأنهما كانا طفلين.
|